فصل: الفصل الثالث في ترجيح النثر على الشعر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: صبح الأعشى في كتابة الإنشا (نسخة منقحة)



.الفصل الثالث في ترجيح النثر على الشعر:

اعلم أن الشعر وإن كان له فضيلة تحضه ومزية لا يشاركه فيها غيره من حيث تفرده باعتدال أقسامه وتوازن أجزائه وتساوي قوافي قصائده، مما لا يوجد في غيره من سائر أنواع الكلام، مع طول بقائه على ممر الدهور وتعاقب الأزمان، وتداوله على ألسنة الرواة وأفواه النقلة لتمكن القوة الحافظة منه بارتباط أجزائه وتعلق بعضها ببعض، مع شيوعه واستفاضته وسرعة انتشاره وبعد مسيره وما يؤثره من الرفعة والضعة باعتبار المدح والهجاء، وإنشاده بمجالس الملوك الحافلة والمواكب الجامعة التقريط وذكر المفاخر وتعديد المحاسن، وما يحصل عليه الشاعر المجيد من الحباء الجسيم والمنح الفائق، الذي يستحقه بحسن موقع كلامه من النفوس وما يحدثه فيها من الأريحية، وقبوله لما يرد عليه من الألحان المطربة المؤثرة في النفوس اللطيفة والطباع الرقيقة، وما اشتمل عليه من شواهد اللغة والنحو وغيرهما من العلوم الأدبية وما يجري مجراها، وما يستدل به منها في تفسير القرآن الكريم وكلام من أوتي جوامع الكلم، ومجامع الحكم، صلى الله عليه وسلم، وكونه ديوان العرب ومجتمع تمكنها والمحيط بتواريخ أيامها وذكر وقائعها وسائر أحوالها، إلى غير ذلك من الفضائل الجمة، والمفاخر الضخمة، فإن النثر أرفع منه درجة، وأعلى رتبة، وأشرف مقاماً، وأحسن نظاماً، إذ الشعر محصور في وزن وقافية يحتاج الشاعر معها إلى زيادة الألفاظ والتقديم فيها والتأخير، وقصر الممدود ومد المقصور، وصرف ما لا ينصرف ومنع ما ينصرف من الصرف، واستعمال الكلمة المرفوضة وتبديل اللفظة الفصيحة بغيرها، وغير ذلك مما تلجئ إليه ضرورة الشعر فتكون معانيه تابعة لألفاظه؛ والكلام المنثور لا يحتاج فيه إلى شيء من ذلك فتكون ألفاظه تابعة لمعانيه؛ ويؤيد ذلك أنك إذا اعتبرت ما نقل من معاني النثر إلى النظم وجدته قد انحطت رتبته. ألا ترى إلى قول أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه: قيمة كل امرئ ما يحسن، أنه لما نقله الشاعر إلى قوله:
فيا لائمي دعني أغالي بقيمتي ** فقيمة كل الناس ما يحسنونه

قد زادت ألفاظه وذهبت طلاوته، وإن كان قد أفرد المعنى في نصف بيت فإنه قد احتاج إلى زيادة مثل ألفاظه مرة أخرى توطئه له في صدر البيت ومراعاة لإقامة الوزن، وزاد في قوله فقيمة فاء مستكرهة ثقيلة لا حاجة إليها وأبدل لفظ امرئ بلفظ الناس ولا شك أن لفظ امرئ هنا أعذب وألطف؛ وغير قوله يحسن إلى قوله يحسنونه، والجمع بين نونين ليس بينهما إلا حرف ساكن غير معتد به مستوخم؛ وإذا اعتبرت ما نقل من معاني النظم إلى النثر وجدته قد نقصت ألفاظه وزاد حسناً ورونقاً ألا ترى إلى قول المتنبي يصف بلداً قد علقت القتلى على أسوارها:
وكان بها مثل الجنون فأصبحت ** ومن جثث القتلى عليها تمائم

كيف نثره الوزير ضياء الدين بن الأثير في قوله يصف بلداً بالوصف المتقدم: وكأنما كان بها جنون فبعث لها من عزائمه عزائم، وعلق عليها من رؤوس القتلى تمائم فإنه قد جاء في غاية الطلاوة خصوصاً مع التورية الواقعة في ذكر العزائم مع ذكر الجنون؛ وهذا في النظم والنثر الفائقين ولا عبرة بما عداهما.
وناهيك بالنثر فضيلة أن الله تعالى أنزل به كتابه العزيز ونوره المبين الذي {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه} ولم ينزله على صفة نظم الشعر بل نزهه عنه بقوله: {وما هو بقول شاعر قليلاً ما تؤمنون} وحرم نظمه على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم تشريفاً لمحله وتنزيهاً لمقامه منبهاً على ذلك بقوله: {وما علمناه الشعر وما ينبغي له} وذلك أن مقاصد الشعر لا تخلو من الكذب والتحويل على الأمور المستحيلة، والصفات المجاوزة للحد، والنعوت الخارجة عن العادة، وقذف المحصنات، وشهادة الزور، وقول البهتان، وسب الأعراض، وغير ذلك مما يجب التنزه عنه لآحاد الناس فيكيف بالنبي صلى الله عليه وسلم ولا سيما الشعر الجاهلي الذي هو أقوى الشعر وأفحله. بخلاف النثر فإن المقصود الأعظم منه المخطب والترسل، وكلاهما شريف الموضع حسن التعليق، إذا الخطب كلام مبني على حمد الله تعالى وتمجديه وتقديسه وتوحيده والثناء عليه الصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم، والتذكير والترغيب في الآخرة والتزهيد في الدنيا والحض على طلب الثواب، والأمر بالصلاح والإصلاح، والحث على التعاضد والتعاطف، ورفض التباغض والتقاطع، وطاعة الأئمة، وصلة الرحم، ورعاية الذمم، وغير ذلك مما يجري هذا المجرى مما هو مستحسن شرعاً وعقلاً. وحسبك رتبة قام بها النبي صلى الله عليه وسلم، والخلفاء الراشدون بعده. والترسل مبني على مصالح الأمة وقوام الرعية لما يشتمل عليه من مكاتبات الملوك وسراة الناس في مهمات الدين وصلاح الحال وبيعات الخلفاء وعهودهم، وما يصدر عنهم من عهود الملوك، وما يلتحق بذلك من ولايات أرباب السيوف والأقلام الذين تهم أركان الدولة وقواعدها. إلى غير ذلك من المصالح التي لا تكاد تدخل تحت الإحصاء ولا يأخذها الحصر.
قال في مواد البيان: وقد أحست العرب بانحطاط رتبة الشعر عن الكلام المنثور كما حكي أن امرأ القيس بن حجر هم أبوه بقتله حين سمعه يترنم في مجلس شرابه بقوله:
اسقيا حجراً على علاته ** من كميت لونها لون العلق

وما يروى أن النابغة الجعدي كان سيداً في قومه لا يقطعون أمراً دونه وأن قول الشعر نقصه وحط رتبته. قال: ولا عبرة بما ذهب إليه بعضهم من تفضيل الشعر على النثر إتباعاً لهواه بدون دليل واضح.
قال في الصناعتين: ومع ذلك فإن أكمل صفات الخطيب والكاتب أن يكونا شاعرين كما أ، من أتم صفات الشاعر أن يكون خطيباً كاتباً. قال: والذي قصر بالشعر كثرته وتعاطي كل أحد له حتى العامة والسفلة فلحقه بالنقص ما لحق الشطرنج حين تعاطاه كل أحد. وسيأتي الكلام على احتياج الكاتب للشرع في بيان ما يحتاج إليه الكاتب فيما بعد إن شاء الله تعالى!

.الباب الثالث في صفات الكتَّاب وآدابهم:

وفيه فصلان:

.الفصل الأول في صفاتهم الواجبة والعرفية:

وهي على ضربين:

.الضرب الأول: الصفات الواجبة التي لا يسع إهمالها:

وهي عشر صفات:
الصفة الأولى: الإسلام:
ليؤمن فيما يكتبه ويمليه. ويوثق به فيما يذره ويأتيه إذ هو لسان المملكة، والمرهب للعدو بوقع كلامه، والجاذب للقلوب بلطف خطابه فلا يجوز أن يولى أحد من أهل الكفر؛ إذ يكون عيناً للكفار على المسلمين، ومطلعاً لهم على خفاياهم فيصلون به إلى ما لا يمكن استدراكه، وقد قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذو بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر} والمراد بالبطانة في الآية من يطلع على حال المسلمين كالاطلاع على مقدار خزائنهم من المال، وأعداد جيوشهم من الخيل والرجال.
قال أبو الفضل الصوري في تذكرته: وإن من الفطرة التي جبل كل أحد عليها حنين كل شخص من الناس إلى من يرى رأيه ويدين دينه. قال: وهذا أمر يجده كل أحد في نفسه، ولذلك شرط بعضهم في الكاتب أن يكون على مذهب الملك الذي يتمذهب به من مذاهب المسلمين ليكون موافقاً له من كل وجه.
ولما فتحت الصحابة رضوان الله عليهم مصر، بعث عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى عمرو بن العاص يأمره أن لا يستعمل في عمل من أعمال المسلمين كافراً فأجابه عمرو: بأن المسلمين إلى الآن لم يعرفوا حقيقة البلاد، ولم يطلعوا على مقادير خراجها؛ وقد اجتهدت في نصراني عارف منسوب إلى أمانة إلى حين معرفتنا بها فنعزله، فغضب عمر رضي الله عنه وقال: كيف تؤمنهم وقد خونهم الله؟ وكيف تعزهم وقد أذلهم الله؟ وكيف تقربهم وقد أبعدهم الله؟ ثم تلا {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم} الآية، وقال في آخر كتابه: مات النصراني والسلام.
وقد روي أن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه قدم على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ومعه كاتب نصراني فأعجب عمر بخطه وحسابه، فقال عمر: أحضر كاتبك ليقرأ، فقال أبو موسى: إنه نصراني لا يدخل المسجد. فزبره عمر رضي الله عنه وقال: لا تؤمنوهم، وقد خونهم الله، ولا تدنوهم، وقد أبعدهم الله، ولا تغزوهم وقد أذلهم الله.
وقد قال الشافعي رضي الله عنه في كتاب الأم: ما ينبغي لقاض ولا وال أن يتخذ كاتباً ذمياً ولا يضع الذمي موضعاً به مسلماً. ويعز على المسلمين أن يكون لهم حاجة إلى غير مسلم. وجزم الماوردي والقاضي أبو الطيب والبندنيجي وابن الصباغ وغيرهم من أصحابنا الشافعية رحمهم الله أنه يشترط في كاتب القاضي أن يكون مسلماً وهو الأصح الذي عليه الفتيا في المذهب.
وإذا اشترط الإسلام في كاتب القاضي والوالي ففي كاتب السلطان أولى لعموم النفع والضر به.
قال أبو الفضل الصوري: ولا شك أن كاتب الإنشاء من أحوج الناس إلى الاستشهاد بكلام الله تعالى في أثناء محاوراته وفصول مكاتباته، والتمثل بنواهيه وأوامره، والتدبر لقوارعه وزواجره، وهو حلية الرسائل وزينة الإنشاءات؛ وهو الذي يشد قوى الكلام، ويثبت صحته في الإفهام؛ فمتى خلت منه كانت عاطلة من المحاسن، عارية من الفضائل: لأنه الحجة التي لا تدحض، والحقيقة التي لا ترفض؛ فإذا كان الكاتب غير مسلم لم يكن لدي من ذلك شيء، وكانت كتابته معسولة من أفضل الكلام، وخالية مما يتبرك به أهل الإيمان والإسلام، ومقصرة عن رتبة الكمال، ومنسوبة إلى العجز والإخلال. فإن تعاطى الكاتب الذمي حفظ شيء منه وكتبه فقد أبيحت حرمة كتاب الله تعالى وانتهكت، وأمكن منه من يتخذه هزواً ولعباً، والله سبحانه يقول في كتابه المكنون: {لا يمسه إلا المطهرون}. فقد صح أنه لا يجوز أن يرقى إلى هذه الرتبة إلا مسلم. قال: ولا يحتج بالصابئ وأنه كتب للمطيع والطائع من خلفاء بني العباس، ومعز الدولة، وعز الدولة من ملوك الديلم، وهما يومئذ عمدة الإسلام وعضد الخلافة، وهو على دين الصابئة. فإن الصابئ كان من أهل ملة قليل أهلها، ليس لهم ذكر ولا مملكة، وليس منهم محارب لأهل الإسلام، ولا لهم دولة قائمة فتخشى غائلته وتخاف عاقبته.
الصفة الثانية: الذكور:
فقد صرح أصحابنا الشافعية، بأنه يشترط في كاتب القاضي أن يكون ذكراً، وإذا اشترط ذلك في كاتب القاضي ففي كاتب السلطان أولى لما تقدم من عموم النفع والضر به، وقد روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال في حق النساء: جنبوهن الكتابة، ولا تسكنوهن الغرف، واستعينوا عليهن بلا: فإن نعم تضريهن في المسألة. ومر علي كرم الله وجهه على رجل يعلم امرأة الخط، فقال: لا تزد الشر شراً.
ورأى بعض الحكماء امرأة تتعلم الكتابة فقال: أفعى تسقى سماً. ولله البسامي حيث يقول!:
ما للنساء وللكتا ** بة والعمالة والخطابة!

هذا لنا ولهن منْـ ** ـنَا أن بتتن على جنابه

فإن قيل: قد كان جماعة من النساء يكتبن ولم يرد أن أحداً من السلف أنكر عليهن ذلك، فقد روى أبو جعفر النحاس بسنده إلى الحسن أن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها تكتب في مكاتباتها بعد البسملة: من المبرأة عائشة بنت أبي بكر حبيبة حبيب الله. وحكى جعفر بن سعيد أنه ذكر لعمرو ابن مسعدة كاتب المأمون توقيعات جعفر بن يحيى فقال: قرأت لأم جعفر توقيعات في حواشي الكتب وأسافلها فوجدتها أجود اختصاراً وأجمع للمعاني. وذكر محمد بن علي المدائني في كتاب: القلم والدواة. أن عاملاً لزبيدة كتب إليها كتاباً فوقعت في ظهره أن أصلح كتابك وإلا صرفناك عن عملك. فتأمله فلم يظهر له فيه شيء، فعرضه على بعض إخوانه فرأى فيه الدعاء لها: وأدام كرامتك، فقال: إنها تخيلت أنك دعوت عليها فإن كرامة النساء دفنهن، فغير ذلك وأعاد الكتاب إليها فقبلته؛ ومن كان هذا شأنه فكيف يقال إنه لم يؤهل للكتابة؟.
فالجواب أن حديث عائشة لم يصرح فيه بأنها كتبت بنفسها ولعها أمرت من يكتب فكتب كذلك بإملائها أو دونه، وإن ثبت ذلك عنها فغيرها لا يقاس عليها، ومن عداها من النساء لا عبرة به.
الصفة الثالثة: الحرية:
فقد شرطوا في كاتب القاضي أن يكون حراً: لما في العبد من النقص، فلا يعتمد في كل القضايا، ولا يوثق به في كل الأحوال؛ فكاتب السلطان كذلك بل أولى كما تقدم.
الصفة الرابعة: التكليف:
كما في كاتب القاضي فلا يعول على الصبي في الكتابة إذ لا وثوق به ولا اعتماد عليه.
الصفة الخامسة: العدالة:
فلا يجوز أن يكون الكاتب فاسقاً فإنه بمنزلة كبيرة، ورتبة خطيرة، يحكم بها في أرواح الناس وأموالهم: لأنه لو زاد أدنى كلمة أو حذف أيسر حرف أو كتم شيئاً قد علمه أو تأول لفظاً بغير معناه أو حرفه عن جهته، أدى ذلك إلى ضرر من لا يستوجب الضرر، ونفع من يجب الإضرار به، وكان قد موه على الملك حتى مدح المذموم وذم الممدوح. فمتى لم يكن له دين يحجزه عن ارتكاب المآثم ويزعه عن احتقاب المحارم كان الضر به أكثر من الانتفاع، وأثر فعله من الأضرار ما لم تؤثره السيوف، ولله القائل!:
ولضربة من كاتب ببنانه ** أمضى وأقطع من رقيق حسام

قوم إذا عزموا عداة حاسد ** سفكوا الدما بأسنة الأقلام

وأيضاً فإنه لا يقبل قول الفاسق فتضيع به المصالح، وربما حمله الفسق وعدم الاكتراث بأمور الدين على وهن يدخله على الدين بقلمه، أو ضرر يجلبه بلسانه.
وأيضاً فالكتابة ولاية شرعية والفاسق لا تصح توليته شيئاً من أمور المسلمين؛ وقد أطلق القاضي أبو الطيب والماوردي من أصحابنا الشافعية القول باشتراط العدالة في كاتب القاضي فيجب مثله في كاتب السلطان بل أولى على ما تقدم.
الصفة السادسة: البلاغة:
بحيث يكون منها بأعلى ربتة وأسنى منزلة؛ فإنه لسان السلطان الذي ينطق به، ويده التي بها يكتب. ورب كاتب بليغ أصاب الغرض في كتابته فأغنى عن الكتائب، وأعمل القلم فكفاه إعمال البيض القواضب، وإذا كان جيد الفطنة صائب الرأي حسن الألفاظ، تتأتى له المعاني الجزلة فيجلوها في الألفاظ السهلة، ويختصر حيث يكون الاختصار، ويطيل حيث لا يجد عن الإطالة بداً ويتهدد فيملأ القلوب روعة، ويشكر فيلقي على النفوس مسرة؛ وإن كتب إلى ملك كبير وذي رتبة خطير عظم مملكة سلطانه وفخمها في معارض كلامه من غير أن يوجد أن ذلك قصده.
الصفة السابعة: وفور العقل:
وجزالة الرأي، فإن العقل أس الفضائل وأصل المناقب؛ ومن لا عقل له لا انتفاع به، وكلام المرء ورأيه على قدر عقله؛ فإذا كان تام العقل كامل الرأي، وضع الأشياء في مكاتباته ومخاطباته في مواضعها، وأتى بالكلام من وجهه، وخاطب كل أحد عن سلطانه بما يقتضيه الحال التي يكون عليها، فيشتد ما كانت الشدة نافعة، ويلين حين يكون إلى اللين محتاجاً، ويوبخ من لا يقتضي فعله أكثر من التوبيخ، ويذم من تعدى إلى ما يستوجب الذم، ويأتي بالمكاتبات التي يقتضيها اختلاف الأحوال واقعة مواقعها صائبة مراميها.
الصفة الثامنة: العلم بمواد الأحكام الشرعية والفنون الأدبية:
وغيرها مما يأتي بيانه، إذ الجاهل لا تمييز له بين الحق والباطل، ولا معرفة ترشده إلى الطريق المعتبرة في الكتابة؛ ومن سلك طريقاً بغير دليل ضل، أو تمسك بغير أصل زل.
الصفة التاسعة: قوة العزم وعلو الهمة وشرف النفس:
فإنه يكاتب الملوك عن ملكه، وكل كاتب يجذبه طبعه وجبلته وخيمه في الكتابة إلى ما يميل إليه؛ ومكاتبة الملوك أحوج شيء إلى التفخيم والتعظيم، وذكر التهاويل الرائعة والأشياء المرغبة، فكلما كان الكاتب أقوى نفساً وأشد عزماً وأعلى همة، كان في ذلك أمضى وعليه أقدر، ومهما نقص في ذلك نقص من كتابته.
الصفة العاشرة: الكفاية لما يتولاه:
لأن العجز يدخل الضرر على المملكة ويوجب الوهن في أمر المسلمين؛ وربما عاد عليهم عجزه بالوبال، أو أدى بهم ضعفه إلى الاضطراب والاختلال.